فصل: تشديد الإسلام في تحريم الخمر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فقه السنة



.تشديد الإسلام في تحريم الخمر:

وتحريم الخمر يتفق مع تعاليم الإسلام التي تستهدف إيجاد شخصية قوية في جسمها ونفسها وعقلها، وما من شك في أن الخمر تضعف الشخصية وتذهب بمقوماتها، ولا سيما العقل، يقول أحد الشعراء:
شربت الخمر حتى ضل عقلي ** كذاك الخمر تفعل بالعقول

وإذا ذهب العقل تحول المرء إلى حيوان شرير، وصدر عنه من الشر والفساد ما لا حد له، فالقتل، والعدوان، والفحش، وإفشاء الاسرار، وخيانة الاوطان من آثاره.
وهذا الشر يصل إلى نفس الإنسان، وإلى أصدقائه وجيرانه، وإلى كل من يسوقه حظه التعس إلى الاقتراب منه.
فعن علي كرم الله وجهه: أنه كان مع عمه حمزة وكان له شارفان أي ناقتان مسنتان أراد أن يجمع عليهما الاذخر، وهو نبات طيب الرائحة، مع صائغ يهودي ويبيعه للصواغين، ليستعين بثمنه على وليمة فاطمة رضي الله عنها - عند إرادة البناء بها - وكان عمه حمزة يشرب الخمر مع بعض الأنصار، ومعه قينة تغنيه، فأنشدت شعرا حثته به على نحر الناقتين، وأخذ أطايبهما ليأكل منها، فثار حمزة وجب أسنمتهما وأخذ من أكبادهما.
فلما رأى علي ذلك تألم ولم يملك عينيه، وشكا حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل النبي على حمزة ومعه علي وزيد بن حارثة فتغيظ عليه وطفق يلومه - وكان حمزة ثملا قد احمرت عيناه فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولمن معه: وهل أنتم إلا عبيد لأبي فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، نكص على عقبيه القهقرى، وخرج هو ومن معه.
هذه هي آثار الخمر حينما تلعب برأس شاربها وتفقده وعيه، ولهذا أطلق عليها الشرع أم الخبائث.
فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخمر أم الخبائث».
وعن عبد الله بن عمرو قال: الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو، وكذا من حديث ابن عباس بلفظ من شربها وقع على أمه.
وكما جعلها أم الخبائث أكد حرمتها، ولعن متعاطيها وكل من له بها صلة، واعتبره خارجا عن الايمان.
فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له» رواه ابن ماجه والترمذي. وقال: حديث غريب.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وجعل جزاء من يتناولها في الدنيا أن يرحم منها في الاخرة لأنه استعجل شيئا فجوزي بالحرمان منه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب، لم يشربها في الاخرة، وإن دخل الجنة».

.تحريم الخمر في المسيحية:

وكما أن الخمر محرمة في الإسلام فهي محرمة في المسيحية كذلك.
وقد استفتت جماعة منع المسكرات رؤساء الديانة المسيحية بالوجه القبلى بالجمهورية العربية المتحدة فأفتوا بما خلاصته: أن الكتب الالهية جميعها قضت على الإنسان أن يبتعد عن المسكرات كذلك استدل رئيس كنيسة السوريين الاورثوذكس على تحريم المسكرات بنصوص الكتاب المقدس.
ثم قال: وخلاصة القول: إن المسكرات إجمالا محرمة في كل كتاب، سواء كانت من العنب أم من سائر المواد كالشعير، والتمر، والعسل، والتفاح، وغيرها.
ومن شواهد العهد الجديد في ذلك: قول بولس في رسالته إلى أهل إفسس [5: 8]: ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة.
ونهيه عن مخالطة السكير [إكوه: 11] وجزمه بأن السكيرين لا يرقون ملكوت السموات [غلاه: 21- إكو 6: 9: 10].

.أضرار الخمر:

وقد لخصت مجلة التمدين الإسلامي بقلم الدكتور عبد الوهاب خليل ما في الخمر من أضرار نفسية وبدنية وخلقية وما يترتب عليها من آثار سيئة في الفرد والجماعة فقالت: وإذا سألنا جميع العلماء سواء علماء الدين، أو الطب، أو الاخلاق، أو الاجتماع، أو الاقتصاد، وأخذنا رأيهم في تعاطي المسكرات لكان جواب الكل واحدا: وهو منع تعاطيها منعا باتا، لأنها مضرة ضررا فادحا.
فعلماء الدين يقولون: أنها محرمة، وما حرمت إلا لأنها أم الخبائب.
وعلماء الطب يقولون: إنها من أعظم الاخطار التي تهدد نوع البشر، لا بما تورثه مباشرة من الاضرار السامة فحسب، بل بعواقبها الوخيمة أيضا، إذ أنها تمهد السبيل لخطر لا يقل ضررا عنها، ألا وهو السل..والخمر توهن البدن وتجعله أقل مقاومة وجلدا في كثير من الأمراض مطلقا، وهي تؤثر في جميع أجهزة البدن، وخاصة في الكبد، وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية.
لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الاسباب الموجبة لكثير من الأمراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والاجرام، لا لمستعملها وحده، بل وفي أعقابه من بعده.
فهي إذن علة الشقاء والعوز والبؤس، وهي جرثومة الافلاس والمسكنة والذل، وما نزلت بقوم إلا أودت بهم: مادة ومعنى، بدنها وروحا، جسما وعقلا.
وعلماء الاخلاق يقولون: لكي يكون الإنسان محافظا على الرزانة والعفة والشرف والنخوة والمروءة، يلزم عدم تناوله شيئا يضيع به هذه الصفات الحميذة.
وعلماء الاجتماع يقولون: لكي يكون المجتمع الإنساني على غاية من النظام والترتيب يلزم عدم تعكيره بأعمال تخل بهذا النظام، وعندنا تصبح الفوضى سائدة - والفوضى تخلق التفرقة - والتفرقة تفيد الاعداء.
وعلماء الاقتصاد يقولون:
إن كل درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن.
وكل درهم نصرفه لمضرتنا، فهو خسارة علينا وعلى وطننا، فكيف بهذه الملايين من الليرات التي تذهب سدى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها.
وتؤخرنا ماليا وتذهب بمروءتنا ونخوتنا؟!.
فعلى هذه الاساس نرى أن العقل يأمرنا بعدم تعاطي الخمر، وإذا أرادت الحكومة أخذ رأى العلماء الخبيرين في هذا المضمار فقد كفيناها مؤنة التعب في هذه السبيل، وأتيناها بالجواب بدون أن تتكبد مشقة أو تصرف فلسا واحدا، إذ جميع العلماء متفقون على ضررها، والحكومة من الشعب، والشعب يريد من حكومته رفع الضرر والاذى، وهي مسئولة عن رعيتها.
وبمنع المسكرات يغدو أفراد الأمة أقوياء البنية صحيحي الجسم، أقوياء العزيمة ذوي عقل ناضج، وهذه من أهم الوسائل المؤدية إلى رفع المستوى الصحي في البلاد، وكذلك هي الدعامة الأولى لرفع المستوى الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي.
إذ تخفف العناء عن كثير من الوزارات، وخاصة وزارة العدل - فيصبح رواد القصور العدلية والسجون قليلين، وبعدها تصبح السجود خالية تتحول إلى دور يستفاد منها بشتى الاصلاحات الاجتماعية.
هذه هي الحضارة والمدنية، وهذه هي النهضة.
وهذا هو الرقي والوعي.
وهذا هو المعيار والميزان لرقي الأمم.
هذه هي الاشتراكية والتعاونية بعينها وحقيقتها.
أي نشترك ونتعاون على رفع الضرر والاذى.
وباب العمل الجدي المنتج واسع: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}. اه.
هذه الاضرار الانفة ثبتت ثبوتا لا مجال فيه لشك أو ارتياب، مما حمل كثرا من الدول الواعية على محاربة تعاطي الخمر وغيرها من المسكرات.
وكان في مقدمة من حاول منع تعاطيها من الدول: أمريكا. فقد نشر في كتاب تنقيحات للسيد أبو الاعلى المودودي ما يأتي: منعت حكومة أمريكا الخمر، وطاردتها في بلادها، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة كالمجلات، والمحاضرات، والصور، والسينما لتهجين شربها، وبيان مضارها ومفاسدها.
ويقدرون ما أنفقت الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزد على 60 مليون دولار، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة، وما تحملته في سبيل قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيها، وقد أعدم فيها 300 نفس، وسجن 335، 532 نفس، وبلغت الغرامات إلى 16 مليون جنيها، وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة ملايين جنيها، ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأمريكية إلا غراما بالخمر وعنادا في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933 إلى سحب هذا القانون وإباحة الخمر في مملكتها إباحة مطلقة. إنتهى.
إن أمريكا قد عجزت عجزا تاما عن تحريم الخمر بالرغم من الجهود الضخمة التي بذلتها، ولكن الإسلام الذي ربى الأمة على أساس من الدين، وغرس في نفوس أفرادها غراس الايمان الحق، وأحيا ضميرها بالتعاليم الصالحة والاسوة الحسنة لم يصنعا شيئا من ذلك، ولم يتكلف مثل هذا الجهد، ولكنها كلمة صدرت من الله استجابت لها النفوس استجابة مطلقة.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ.
إني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب ورجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في بيتنا، إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ فقلنا: لا، فقال: إن الخمر قد حرمت فقال: يا أنس، أرق هذه القلال قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل.
وهكذا يصنع الايمان بأهله.

.ما هي الخمر:

الخمر هي تلك السوائل المعروفة المعدة بطريق تخمر بعض الحبوب أو الفواكه، وتحول النشا أو السكر الذي تحتويه إلى غول بواسطة بعض كائنات حية لها قدرة على إفراز مواد خاصة يعد وجودها ضروريا في عملية التخمر.
وقد سميت خمرا لأنها تخمر العقل وتستره: أي تغطيه وتفسد إدراكه.
هذا هو تعريف الطب للخمر.
وكل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمرا، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه، فما كان مسكرا من أي نوع من الانواع فهو خمر شرعا، ويأخذ حكمه، ويستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الاشياء، إذ أن ذلك كله خمر محرم، لضرره الخاص والعام، ولصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ولايقاعه العداوة والبغضاء بين الناس.
والشارع لا يفرق بين المتماثلات، فلا يفرق بين شراب مسكر، وشراب آخر مسكر فيبيح القليل من صنف ويحرم القليل من صنف آخر، بل يسوي بينهما، وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما فإنه كذلك قد حرم القليل من الآخر، وقد جاءت النصوص صريحة صحيحة، لا تحتمل التأويل ولا التشكيك:
1- روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام».
2- وروى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما بعد، أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل».
هذا الذي قاله أمير المؤمنين وهو القول الفصل، لأنه أعرف باللغة وأعلم بالشرع، ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفه فيما ذهب إليه.
3- وروى مسلم عن جابر، أن رجلا من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسكر هو؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخيال قالوا يا رسول الله: وما طينة الخيال؟ قال: عرق أهل النار أو قال: عصارة أهل النار».
4- وفي السنن عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا»
5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام».
6- وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال، قلت يا رسول الله: أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل حين يشتد والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه، قال: «كل مسكر حرام».
7- وعن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم على الجعة وهي نبيذ الشعير أي البيرة رواه أبو داود والنسائي.
هذا هو رأي جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين.
وفقهاء الأمصار، ومذهب أهل الفتول، ومذهب محمد من أصحاب أبي حنيفة، وعليه الفتوي.
ولم يخالف في ذلك أحد سوى فقهاء العراق، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين، وأبي حنيفة، فإنهم قالوا: بتحريم القليل والكثير من الخمر التي هي من عصير العنب.
أما ما كان من الانبذة من غير العنب، فإنه يحرم الكثير المسكر منه، أما القليل الذي لا يسكر، فإنه حلال.
وهذا الرأي مخالف تمام المخالفة لما سبق من الادلة.
ومن الأمانة العلمية أن نذكر حجج هؤلاء الفقهاء ملخصين ما قاله ابن رشد في بداية المجتهد.
قال: قال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الانبذة وكثيرها المسكرة حرام.
وقال العراقيون، وإبراهيم النخعي من التابعين، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة وأبو حنيفة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين: إن المحرم من سائر الانبذة المسكرة هو السكر نفسه، لا العين.
وسبب اختلافهم تعارض الآثار والاقيسة في هذا الباب.
فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك.
الطريقة الثانية تسمية الانبذة بأجمعها خمرا.
فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام».
أخرجه البخاري، وقال يحيى بن معين هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر.
ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» فهذان حديثان صحيحان:
أما الأول فاتفق الكل عليه.
وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم.
وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
وهو نص في موضع الخلاف.
وأما الاستدلال الثاني من أن الانبذة كلها تسمى خمرا فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الاسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع.
فأما التي من جهة الاشتقاق، فإنهم قالوا: إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل.
وهذه الطريقة من إثبات الاسماء فيها اختلاف بين الاصوليين وهي غير مرضية عند الخرسانيين.
وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع فإنهم قالوا: إنه وإن لم يسلم لنا بأن الانبذة تسمى في اللغة خمرا فإنها تسمى خمرا شرعا.
واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة».
وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا وأنا أنها كم عن كل مسكر».
فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة.
وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} وباثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي.
أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين، لما سماه الله رزقا حسنا.
وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: «حرمت الخمر لعينها، والسكر من غيرها».
قالوا: وهذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز، لأن بعض رواته روى والمسكر من غيرها.
ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني كنت نهيتكم عن الشراب في الاوعية، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا»، خرجها الطحاوي.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله، فحفظت ونسيتم.
وروي عن أبي موسى أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا يا رسول الله: إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له: المزر والآخر يقال له: البتع فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «اشربا ولا تسكرا».
خرجه الطحاوي أيضا إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب.
وأما احتجاجهم من جهة النظر.
فإنهم قالوا: قد نص القرآن على أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة}.
وهذه العلة تود في القدر المسكر، لافيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام، إلا ما انعقد عليه الاجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها.
قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص.
وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه.
وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر.
وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الاثر على القياس، أو تغليب القياس على الاثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها.
لكن الحق أن الاثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس.
وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل، فهنا يتردد النظر: هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ؟ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الالفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها.
ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي، كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون.
وربما كان الذوقان على التساوي ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع، حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب.
قال القاضي: والذي يظهر لي - والله أعلم - أن قوله عليه الصلاة والسلام «كل مسكر حرام» وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر، لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير.
وقد ثبت من حال الشرع بالاجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك.
هذا، وإن لم يسلموا لنا بصحة قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» فإنهم إن سلموا لم يجدوا عنه انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف.
ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس.
وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة فقال تعالى:
{قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس}.
وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتفاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها.
فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر، ومنع القليل منها والكثير.
وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي.
واتفقوا على أن الانتباذ حلال، ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «فانتبذوا، وكل مسكر حرام».
ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتبذ وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث.
واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما في الاواني التي ينتبذ فيها.
والثانية في انتباذ شيئين مثل: البسر والرطب، والتمر والزبيب. انتهى.